للاعلان هنا .. اتصل بنا على 99793374
منوعات عامة

إنـقـاذ تاريخ .. يَكشف الغطّاسة عن الذين فُقِدوا على متن سفن الرقيق

( الفوز – منوعات )

المـاء على بشرتي فـاتر، والصمت مطلق؛ وبينما أحوم فوق بقايا الحطام، أشعر بالسلام والشُّكران، ويتملّكني إحساس بمعانقة الديار. انزلوا معي تحت الماء -ليس عميقًا جدا، ربما خمسة أمتار فقط أو نحو ذلك- وسترون زُهاء 30 غطّاسًا آخر، في مجموعات تتألف من غطاسين اثنين. وقد طفوا في أماكنهم بلا حراك، رغم التيارات القوية قبالة سواحل “كي لارغو” في فلوريدا، وهـم يــرسمون صورًا للقطع الأثرية المكسوة بالمرجان ويقيسونها. وها أنا ذا معهم لأُسهم، أول مرة في حياتي، بوضع خريطة لبقايا حطام سفينة. 

جُلّ الغطاسين أميركيون من أصل إفريقي. نتدرب بصفتنا أنصار علم الآثار الغارقة، لنكتسب المهارات اللازمة للانضمام إلى الحملات الاستكشافية والإسهام في التوثيق لحطام سفن الرقيق التي يُعثَر عليها في أنحاء العالم؛ سفنٌ من قبيل “ساو خوسيه باكيتي دافريكا” في جنوب إفريقيا، و”فريدريكوس كوارتوس” و”كريستيانوس كوينتوس” في كوستاريكا، و”كلوتيلدا” في الولايات المتحدة. فلقد أُجبر ما نحوه 12.5 مليون إفريقي على ركوب سُفن مثل هذه خلال ازدهار تجارة الرقيق عبر الأطلسي بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، حسب تقديرات “نفيس خان”، الأستاذ في كلية التربية لدى “جامعة كليمسون” والمستشار لدى منظمة “قاعدة بيانات تجارة الرقيق عبر الأطلسي”.

يقول: “لقد استغرق الأمر ما لا يقل عن 36 ألف رحلة”. ويُرَجَّح أن ألف سفينة أو نحو ذلك غرقت. ثم جاءت منظمة “الغوص الهادف” (المعروفة اختصارًا باسم DWP) التي تدرب الغواصين للعثور على اللقى الأثرية التاريخية والثقافية الغارقة في الأعماق ومن ثم صونها. فمنذ إنشائها عام 2003، دَرَّبت زُهاء 500 غواص لمساعدة علماء الآثار والمؤرخين في البحث عن أمثال تلك السفن والتوثيق لها.

وتبتغي المنظمة مساعدة السُّود خاصة في العثور على تاريخهم وحكي قصصهم الخاصة. يقول الغواص الأسطوري “ألبرت خوسيه جونز”، أحد مؤسسي “الجمعية الوطنية للغواصين السود” وعضو مجلس إدارة “الغوص الهادف”: “حين تكون أميركيًا من أصل إفريقي وتغوص نحو سفينة رقيق، فإن الأمر يكون مختلفًا تمامًا عن قيام شخص آخر بذلك. ففي كل مرة  تغوص، تُدرك شيئين أساسيين: أحدهما أن أسلافك ربما كانوا على متن السفينة؛ وثانيهما إدراكك أن لديك تاريخًا، وأن تاريخك لم يبدأ على سواحل الولايات المتحدة، ولم يبدأ بالرّق، بل بدأ في إفريقيا منذ فجر الزمن وبداية الحضارة”.

يَعرض “المتحف الوطني لتاريخ الأميركيين من أصل إفريقي وثقافتهم” في العاصمة واشنطن، أعمال منظمة “الغوص الهادف”، ضمن جزء من “مشروع حطام سفن الرقيق”، وهو شبكة مجموعات تكشف بقايا سفن الرقيق وتوثّق لها، وتسعى لسرد تاريخ تجارة الرقيق على نحو أشمل. يقول “لوني بانتش الثالث”، المدير المؤسس للمتحف وسكرتير “معهد سميثسونيان”: “إن أعضاء منظمة الغوص الهادف يوظّفون مهاراتهم في الغوص لمساعدتنا في العثور على القصص المغمورة في الأعماق. من بعض النواحي، نَعلم الكثير عن الرّق. لكن ثمة جوانب كثيرة لا نَعلمها. وأؤكد أن آخر حدود معرفتنا تلك يقبع تحت المياه”.

هناك في الأعماق. أشعر بلمسة نسيم المحيط السحرية على بشرتي ورذاد مياه البحر إذ يُسرع المركب عائدًا إلى الديار بعد يوم عمل حافل. إنه ليثلج الصدرَ النظرُ إلى هذه الوجوه المتعَبة من حولي ومعرفةُ أن أصحابها العاديين – معلمين وموظفين حكوميين ومهندسين وطلبة – حضَروا جميعًا رغم انشغالاتهم، وتطوعوا لأنهم يحبون الغوص ويؤمنون بأهمية هذا العمل .

في رحلة العودة، قد تسمعون صوت المدرب الرئيس “جاي هيغلر” وثرثرته المميزة؛ وقد ترون الوميض في عينيه وفرحه المُعْدي عندما يقول بهدوء قبل الإيماء: “هذا ما أعيش من أجله”.  أكاد أجزم أن عدوى حماس هذا الرجل ستصيبكم لا محالة. 

للإستعلام عن المخالفات ودفع الغرامات
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock